الخميس، 6 أبريل 2017

أنت سيد حياتك - ما يشبه تأريخًا لبدايات 2017

قرأت قريبًا في أحد كتب مداخل التفكير النقدي وفهم المُحاجّة والحوار، وبعد فقرة مليئة بالكلمات المعقدة والخطوات الكثيرة يوضح فيها الكاتب كيف يتعامل المرء مع ما يقال أمامه، وكيف يقسم الكلام إلى مقدمات ونتائج، استصعب المحاور -لأن الكتاب قائم على لغة حوارية- أن يقوم بكل تلك الخطوات في كل مرة يتهيأ أمامه حديث بين البشر، فألمح المؤلف إلى نقطة مهمة ولو لم تبد كذلك حينها، أن تلك الخطوات بالفعل لا يمكن تكرارها في كل مرة يدار فيها أي حديث، والأمر ببساطة أن هذا التحليل والمجهود الذهني يكون بالأخص في القضايا محل اهتمامات الشخص، إذ يوفر مجهوده الذهني للوقت الذي سيحتاج فيه إلى بناء رأي واضح وحجة قوية في قضية مهمة بالنسبة له.
لم يجاوز الكاتب الحديث عن الحوار وتحليله، لكنه لامس خيطًا متفجرًا في ذهني، وهو كما أن عقلك لن يحتمل تحليل كل كلمة تقال كيف قيلت ولم قيلت، فحياتك وذهنك ليسوا بأكبر قدرة منه على الاهتمام بكل شأن عارض، بل أقل.

خُلِقتْ الحياة مليئة بالأسرار محفزة للبحث والاستكشاف، وخُلِقتَ أنت لتعيش بضع سنين لن تجاوزهم، هم منتهى وقتك في هذه الدنيا، وقتك القاصر لن يحتمل شغفك بمعرفة كل أسرار الكون، والعاقل هو من يعلم كيف يوجه ذهنه توجيهًا تامًا لإدراك خفايا موضوع ما، وكيف يكتفي بالقشور في موضوع آخر يعلم عنه بقدر محدود، حديثي حتى الآن ليس حديثًا عن الأولويات وإنما حديث عن سلطة المرء على ذهنه، وقدرته المجردة على مجاوزة قضايا حياتية ومعارف متعددة يسيطر فيها -ولو قليلًا- على فضوله لمعرفتها والمشاركة فيها.

والكلام عن المعارف والعلوم يسبقه كلام عن حياة المرء اليومية، وكلام عن كل ما يشكل جزءًا من يومه، إنسانٌ يقوده يومه ويمنح وقته لكل عارض، لا وعي له بأيام حياته الضائعة لن يكون أبدًا كشخصٍ يدخل كل تجربة، يومية كانت أو أكبر من ذلك، وهو يعلم الآن لِمَ يتواجد في هذا المكان ولِمَ يرى هؤلاء البشر في هذا الوقت، فأعظم ما قد يرزقه المرء هو وعيه بذاته وبأيام حياته وقدرته المحدودة على الارتباط بالأشياء، أن تشغل وقتك كله بأنشطة لا تجد معها وقتًا لتراجع أيامك وتعي ما تفعل لن ينتهي بك ذلك إلا إلى إفناء ذاتك وأيام حياتك هروبًا من نفسك.
وتتمة للحديث عن الارتباط بالعوارض، ولأننا لم نخلق كالآلات كل ما يُعَرِّفُنا هو قدرتُنا على فعل الأشياء الماديّة، فتحويلُ الحياة بأكملها إلى حياة نفعية تُحتَقر فيها المشاعر وتُعامَل دائمًا معاملة المعطّل عن الطريق، هذه المعاملة باب واسع نحو مجتمع جامد جاف ينتج مسوخًا في صورة بشر لا يحفظون إلا ما يرون فائدته المادية عليهم، يقدمون قيم المنفعة الآنية على قيم العطاء والوفاء.

تكوّنَ عندي في السنين الأخيرة مفهوم عن الارتباط بالبشر، ذكرته هنا لأنه متعلق بموضوع المقال، لأنَّ قلبَك لن يحتمل تعلُّقًا بجميع البشر، وكذلك انعدام تعلقك بأي شخص سينتج لك حياة جافة مبتورة لا تجاوز حدود الجسد، وأنت وحدك من يحدد أين تُفنى مشاعرك! فمشاعرك هي قدرتك القلبية، وإفناؤها في سبيل كل عارض أذان بجحيم لن تفلت منه ما دمت مقرِّبًا لكل البشر من حولك، لا تستطيع تحديد دوائرك الخاصة والعامة، ولا تستطيع تمييز معاملة هؤلاء من أولئك، وإنما تُفنى المشاعر في سبيل من تقوم بهم الرحمة والمودة، ومن يتَمَثّلون معاني السكن والسند، ومن تهون بصحبتهم الحياة، ولو لم يجاوز عددهم واحدًا.


فهذا المنهج في التعامل مع شئون الحياة، المبنيّ على قدرة الإنسان على التحكم في اهتماماته وإعطائها ما يُقَدّرُه من وقت وجهد، والمبنيّ كذلك على إيمان حقيقي بضعف الإنسان وقصور قدرته وحاجته إلى مراجعة حياته، هو ما انتهيت إليه في هذه الفترة من حياتي، في انتظار ما تحمله السنوات القادمة من تغيير.

نشرت هذه الخاطرة لأول مرة في العدد الثاني من مجلة ظل.. للتحميل اضغط هنا